دخل توم ذو الـ 45 عاما، إلى البار، الذي يقع في نهاية الشارع الذي يقطن فيه.
اتجه الى النادل الجالس خلف الطاولة، وأشار إليه بكأسين.
ناوله الكأسين، فشربهما دفعة واحدة. وأخذ يهز رأسه، ثم أشار اليه بكأسين آخرين، فقام النادل بملئها وهو يقول:
ـ سيد توم! هل هناك ..
قاطعه توم بإشارة من يده، فسكت. أدرك أنه لا يريد التحدث. بينما أخذ توم الكأسين وشربها الواحد تلو الاخر، ثم استدار ينظر الى الطاولات المتناثرة؛ عله يجد أحد اصدقائه أو معارفه. لا يوجد سوى ثلاثة باستثناء ذلك الكهل الذي يبقى في البار ليلا ونهارا.
رفع توم يده بالتحية وهو يقول: هاي. لم يعره أحد أي اهتمام، سوى ذاك الرجل الذي جلس للتو، رفع يده وحياه.
“هل أعرفه ؟” تساءل ، ثم اتجه اليه ، عندما وصل وجده شاب في الثلاثين من عمره ، ظن أنه أحد معارفه ولكن كما يبدو بأنه قد نسيه ،فهو كثير النسيان على كل حال، وخصوصا للأشخاص الذين لم يحتك بهم كثيرا.
استأذنه بالجلوس فرحب به على الفور، قال توم:
ـ أستميحك عذرا إن كنت قد نسيت اسمك!
ـ لا تهتم فأنا أيضا لا أتذكر اسمك.
قهقه ضاحكا، ثم سكت فجأة، تذكر بأنه حزين، وبدى عليه الوجوم فتنهد:
ـ لقد مات صديقي العزيز، وجدوه مشنوقا في غرفته؛ انتحر!
ـ انتحر؟!
ـ نعم انتحر، فجأة انتحر، لا أدري ماذا حدث؟ لقد كان سعيدا، أقصد كان طبيعيا، لم أسمعه يشتكي من شيء، كان رجلا أقرب الى الكمال، لا أدري لماذا رجلا مثله يفعل ذلك!
ـ قريبا الى الكمال؟! ماذا تعني؟
ـ كما سمعت، كان يبدو كما لو انه خالي من العيوب
ـ متى انتحر؟
ـ قبل ثلاثة ايام
ـ ولابد أنك عرفت الخبر للتو؟
ـ نعم قبل ثلاث ساعات. أخبرني أخوه، لم اصدق الخبر، وعندما ذهبت ورأيت جثته لم أعرفه. كان متغيرا، مختلفا تماما، ربما بسبب تلك الطريقة في موته، آه يا إلهي، إيها النادل! تعال! آتني بقارورة كاملة، كاسين لا تكفي، أريد أن أنسى كل شيء، أريد أن أنسى حتى طريق البيت.. أي بيت؟ حتى لو عرفت الطريق؛ فلن تدعني ادخل، لقد وعدتها ان لا اعود للشرب، ولكن ها أنا ذا، لم أستطع تحمل الألم، من يستطيع؟!…أتدري ؟
ـ ماذا؟
ـ الغريب في الامر انه لم يكن يشكو من شيء!
ـ نعم، لقد أخبرتني. ألم تكن له مشاكل عائلية أو مالية أو مع أحد مدرائه في العمل؟
ـ لم تكن لديه أية مشاكل في عمله، عمله حر، وأموره المادية جيدة جداً، ولا يعاني من مشاكل عائلية لأنه ببساطة غير متزوج. كما تعلم المشاكل تأتي مع النساء وترحل معهن، لقد تطلق من زوجته منذ عشرة سنوات.
ـ آه فهمت
ـ كان يشكو من شيء واحد فقط؛ التدخين، لكنه فجأة أقلع عن التدخين، تفاجأت عندما أخبرني بذلك، لكنني فرحت من أجله، لا أدري لماذا كان يريد الإقلاع عن التدخين، كان يقول إن التدخين عادة تتحكم في شخصيته وأنه لا يريد أن يتحكم فيه شيء، ألم أقل لك أنه كان يبحث عن الكمال.
ـ أتريد أن تقول بأن التدخين هو العادة السيئة الوحيدة التي كان صديقك مدمنا عليها؟
ـ بالضبط، يومها ذهبنا نحتفل بهذه المناسبة، أنا وهو وصديقنا مايك، أتينا إلى هنا، شربنا ولعبنا طيلة الليل وعدنا عند الفجر، طبعا إلى بيت مايك، لم أكن لأجرؤ على العودة وأنا بتلك الحالة. كنت قد وعدت كاثرين ألا أدخل البيت وأنا سكران أبدا، تلك قصة أخرى، أعذرني، يبدو وانني أثرثر كثيراً، هذا ما يفعله السكار، ههههه
ـ لا عليك، لقد أمتعني حديثك. أخبرني منذ متى تعرف صديقك هذا؟
ـ منذ كنا ندرس في الجامعة، إنه شخصية فريدة، لا يمكن أن يجرحك مهما أخطأت في حقه، أو تجاوزت عليه، تجده.. كيف أصفه؟ تجده متفهما.
ـ نعم فهمت.
أدرك توم أنه حتى تلك الساعة، لا يعرف اسم الجالس أمامه فأخذ يقول:
ـ إنك إنسان شهم، رجل بمعنى الكلمة، تستمع ألي منذ نصف ساعة من غير ان تعرفني، وانا حتى لم أسألك عن اسمك، يا لوقاحتي!
ـ اسمي جون
ـ وانا توم. أهلا وسهلا ـ ومد يده يسلم عليه ـ سررت بمعرفتك. وهل تقيم في الجوار؟
ـ عيادتي في الجهة المقابلة، وخطر ببالي أن أشرب كأساً، مزاجي متكدر قليلا.
ـ تملك عيادة وتدخل مثل هذا البار القذر!! هذا البار لا يدخله إلا الكادحين من أمثالي
ـ هذا البار يذكرني بفترة جميلة من حياتي
ـ ومن ماذا مزاجك متكدر ..هل أنت متزوج أم مات صديقك العزيز.. أعذرني لوقاحتي؟
ـ شيء من هذا القبيل.
ـ لا تريد ان تتكلم إذا، اعذرني لتطفلي، هل أنت طبيب جراح أم ماذا؟
كان توم يتكلم والسكر واضحا من حركات يده وثقل لسانه
ـ أنا طبيب نفساني
ـ طبيب نفساني، آه فهمت، صديقي الذي شنق نفسه كان يتردد على طبيب نفساني، وهو الذي استطاع إقناعه بترك التدخين، كيف تفعلون ذلك؟! أقصد لقد كان مدمنا لسنوات ثم فجأة توقف!
ـ حسنا ً.. إذا كان المدمن الذي يأتي الينا لديه الرغبة في التغيير فعملنا يكون سهلا، لكن الأشخاص الذين يأتون إلينا ويريدوننا ان نغير طبيعتهم أو سلوكهم وليس لديهم الرغبة في ذلك؛ فمن الصعب تغييرهم
ـ يا إلهي ! إنك رائع! أنت تقول كلاما رائعا بالفعل!
ـ قل لي ما اسم صديقك المنتحر؟
ـ اسمه ديفيد
ـ ديفيد؟
ـ نعم، هل يذكرك هذا الاسم بأحد؟
ـ نعم، أحد مرضاي كان اسمه ديفيد ..
وانطلقت زفرة طويلة من الطبيب بعد أن أفرغ بقية الكأس في جوفه، وضع الكأس وهو يتنهد وقد شرد بعيدا، لكن توم استمر يقول:
ـ الغريب يا دكتور أن صديقي هذا بعد تلك الليلة التي قضيناها معا؛ أصبح يأتي الى هنا كل يوم، استمر قرابة أسبوعين، وكأنه أصبح مدمنا للكحول، بالطبع لم أكن آتي معه، ليس خوفا من كاثرين لكن حبا في السلام، هههههه. ما بك يا دكتور؟ هيا أضحك ارجوك، لقد أتينا الى هنا لننسى.
عاد الطبيب من شروده وحاول أن يبتسم، بينما واصل توم حديثه:
ـ أخبرني بأنه سيذهب الى الطبيب ليعرض عليه حالته.
في هذه الاثناء بدأ وجه الطبيب يتغير، وكأن كرب ما أصابه فجأة .
ـ أعتذر يا دكتور، يبدو وان حديثي قد أزعجك
ـ لماذا تقول ذلك؟
ـ أنني سكران؛ لكنني أستطيع قراءة ملامح وجهك
ـ لا أبداً.. أكمل.! هل ذهب ديفيد إلى الطبيب؟
ـ نعم. أتذكر بأني اتصلت له بعد يومين تقريباً من ذهابه إلى الطبيب ، فأخبرني بأنه قد ترك الشرب نهائيا، وان مجرد ذكر الخمر أمامه يشعره بالغثيان، أتعرف يا دكتور؟ لقد اندهشت كثيرا، ما الذي فعله الطبيب حتى جعل صديقي يغير قناعته بهذه القوة؟! ثم عندما لمته لأنه لم يخبرني أصر على أن آتي لنحتفل في بيته، بالطبع وافقت وذهبت.
وفكرت وانا في الطريق إليه، بماذا يمكن ان نحتفل؟ هل يمكن أن يكون هناك احتفالا من غير خمرة؟ من غير أن ننصطل، ونخرج عن التغطية؟!
ولمعت في رأسي فكرة، لم تكن فكرة صائبة بالطبع؛ أن اشتري حشيشا، نوع مخفف ولن يؤذي القلب أو يصيب بالإدمان، شربنا الحشيش طيلة الليل.
ـ لا تقل لي بأنه أصبح مدمنا للحشيش!
ـ بالفعل يا دكتور. كيف عرفت؟! لقد اتصل بي في مساء اليوم التالي وطلب مني عنوان موزع الحشيش، لقد أمسى من ليلته مدمنا عليها، لا أدري ماذا حدث لصديقي بالضبط لكنه كان كمن يترك عادة سيئة ليتعلق بما هو أسوأ منها. وكأنّه لا يستطيع ان يبقى من دون عادة سيئة!
أطرق الطبيب برأسه، وأخذ يقلب الكأس الذي بيده، كان الكأس فارغا، ثم قال:
ـ اكان اسم صديقك ديفيد ماك نيلي؟
اندهش من تغير لكنة الطبيب وأرتد برأسه قليلا إلى الوراء
ـ أكنت تعرفه يا دكتور؟
ـ نعم. وانا من عالجه من التدخين والكحول والمخدرات أيضا. انا ايضا من أبلغ عن حادثة انتحاره.
وتوقف الطبيب، وهو يتأمل قعر الكاس الفارغ، ثم رفع رأسه وأخذ يتكلم بمرارة:
ـ عند اجراء أي عملية جراحية لا يستطيع الطبيب أن يضمن لك سلامة المريض، كما لا يستطيع أن يضمن عدم وقوع أخطاء. في الطب الأخطاء واردة، والكمال لله فقط..!
نظر الى الطبيب ببلاهة، عقله لم يعد قادرا على استيعاب ما يقوله الطبيب، لكنه أشار للطبيب بالتوقف:
ـ مهلا يا دكتور، مهلا! ماذا تقول؟ هل تقول أنك أخطأت عندما عالجته؟ كيف؟ لم أفهم؟ هل أعطيته مواد محفزة على الانتحار؟ أتكون أنت من تسبب في انتحاره؟
ومد يده يمسك بتلابيب الطبيب..
ـ هيا تكلم.. أهو أنت؟ كنت أعلم أن صديقي لا يمكن أن يقدم على مثل هذا الفعل، هيا تكلم …أنطق!
ـ أرجوك اهدأ.. سأشرح لك كل شيء.
عاد توم الى كرسيه وجلس:
ـ تكلم!
ـ انا لم أستخدم أية عقاقير من أية نوع. لقد عالجته بالتنويم المغناطيسي ، وكل شيء موثق لدي بالصوت والصورة، والمشكلة لم تكن في التنويم المغناطيسي، المشكلة هي ان صديقك ديفيد لم تكن لديه عادات سيئة اخرى، فقط تلك العادة التي ذكرتها والتي خلّصتُه منها. وعندما تخلص منها ؛ انتقل إلى عادة سيئة أخرى بمساعدتك طبعا؛ فأتى إليّ لأخلصه منها ففعلت. فقام بالتعلق بعادة أسوأ من سابقتها وأتى إليّ لطلب المساعدة ففعلت كما في السابق. وما كان ينبغي علي فعل ذلك ؛ حتى أعرف لماذا يتنقل من عادة الى عادة أسوأ منها ..؟!
وسكت الطبيب.. كمن هو متردد
ـ أكمل يا دكتور.. أين الخطأ في ذلك؟
ـ في اليوم التالي من آخر جلسة مع ديفيد ، أتى أحد أساتذتي الكبار لزيارتي في المكتب كان ذلك قبل اسبوع ، وتناقشنا في امور كثيرة ومن ضمنها حالة ديفيد ، فسألني إذا ما كان ديفيد له عادات سيئة أخرى ، لكنني كنت أجهل الاجابة لأنني لم اسال ديفيد عن ذلك ، فأشار علي أستاذي بان أتأكد من هذا الامر ، لأنه لا يجوز ترك الشخص من دون اي عادة سيئة؛ لأنه ربما شعر بالخواء وسعى لتدمير ذاته. طبعا هذا الامر غير حتمي الحدوث. لكنه قد يحدث.
عندها شعرت بالقلق، فحاولت الاتصال بديفيد. لكن جهازه كان مغلقا.
عاودت الاتصال به اليوم التالي، كان مغلقا أيضاً. فعقدت العزم بأن أذهب لزيارته.
لكنني انشغلت، ولم أتذكر الا قبل سبع ساعات من الان.
فذهبت على الفور الى شقته، وطرقت الباب حتى سمعتني جارته، التي أخبرتني بأنها لم تره منذ ثلاثة أيام.
اقتحمت الشقة، كانت الرائحة قد بدأت بالانتشار.
أبلغت الشرطة، فاتوا على الفور.. أخذوا أقوالي، واخبروني انهم سيعاودون الاتصال بي، إذا دعت الضرورة ..
عدت الى العيادة لكنني لم استطع .. وتوقف عن الكلام ، ثم واصل :
ـ والان أكدت لي انت أنه لم يكن لديه عادات سيئة أخرى؛ سوى هذه العادة التي تنقّل بينها، فلما حرمته منها لم يتبقى لديه عادة سيئة يتكئ عليها كضرورة نفسية …. هذا يفسر كل شيء الان، كنت اعتقد أنه مثل معظم الناس لديهم عشرات العادات السيئة، وانه ربما لم يتكلم عنها، لم أسأله عنها لبداهة الامر، لكن ..
وتوقف عن الكلام لبرهة ثم قال:
ـ وهذا أمر نادر الحدوث، كما قلت أنت: لقد كان يبحث عن الكمال ..
قفز توم وأمسك الطبيب، هذه المرة لا يمكن أن يفلته، صحيح أنه لم يكن يفهم ماذا يقول الطبيب، لم يفهم ما هي الضرورة النفسية ولا معنى يتكئ عليها، لم يفهم شيء، لكنه فهم ان الطبيب قد قام بخطأ ما. خطأ تسبب في انتحار صديقه العزيز، وهذا هو المهم.
لم تكن حادثة انتحار اذن! بل اهمال وتسيب، بل جريمة قتل، وهذا هو القاتل:
ـ لقد قتلته أيها الأحمق اللعين.. قتلت أعز اصدقائي ..
ورفع قبضته وأراد أن يهوي بها على الطبيب إلا أنه وجد نفسه مكتفا من خلفه بشابين يعملون في البار، أخذ يسب ويلعن وهم يسحبونه بعيدا، ويتوعد الطبيب بمقاضاته وحبسه، بينما تسمر الطبيب في مكانه وهو يتمتم ” لقد كان يبحث عن الكمال ..هو من قتل نفسه، لقد كان يبحث عن الكمال!!”
اقرأ ايضاً :