هل سمعت بالعبارة التي تقول:
“ثمّة شيء حدث في طفولتك، وبدون ان تعي ذلك، كلّ شيء سيدور حوله، الى آخر لحظة في حياتك!” ؟
حسنا ربما لا تكون قد سمعت بها من قبل، وربما لو سمعت بها، ما اعرتها كثيرا من الاهتمام. بعكس صديقنا سامح..!
منذ ان قرأ سامح هذه العبارة وهو يفكر بها ليل نهار. يحاول ان يتذكر أي شيئ حدث في طفولته. ورغم الجهد الذي بذله وهو يحاول ان يتذكر، إلا أنه لم يصل إلى أية نتيجة. بل حدث ذلك فجأة، إذ قفزت تلك الحادثة إلى عقله مباشرةً وهو في محل للخضروات والفواكة. وإذا به يتذكر كل شيء!
قبل حوالي خمسة وعشرون عاما، دخل سامح دكانا للخضار والفواكه. كان وقتها في الثانية عشرة من عمره، وطلب من صاحب كيلو طماط. فقال له صاحب المحل “اذهب وتخير ما تشاء!”
جلس سامح ينتقي ما يشاء، وبينما هو كذلك، إذ أقبل ابن صاحب الدكان. كان في نفس عمره تقريباً. وجلس إلى جواره، وسأله لماذا تفعل هذا؟ وقبل أن يستوضح منه ماذا يقصد؛ مدّ الولد يده ولطمه، لطمة خفيفة، بطراف أصابعه. لم تكن لطمة قوية. لكنها كانت مفاجئة. أربكت سامح، الذي وقف لبرهة مذهولاً..!
ما الذي دفع هذا الولد لهذا الفعل؟ لم يرتكب خطأ! وهذا الفعل فيه تجاوز لم يتوقعه.. هل كان يتشجع بانه في محل والده؟ حتى يتجرأ ويلطمه؟ وهل يمد يده ويرد على هذه اللطمة؟ هل يكتم الأمر في نفسه؟ فهو يكتم أشياء كثيرة هذه الأيام! وشعر بأنه قد تأخر في الرد، وأصبح غير ممكن. لماذا غير ممكن؟! لقد فات الاوان! هكذا أقنع نفسه وقتها.
هذه اللطمة كانت ظلما وقسوة. وشيء لم يستطع ذلك الولد أن ينساها. على مر السنين. حتى بعد خمسة وعشرين عاما، اخذ سامح يتذكر تلك الحادثة، ويسأل نفسه: لماذا لم أرد عليه؟! لماذا؟؟؟
وهل ميلي للسلم في مواجهة أي شخص هو بسبب تلك الحادثة؟!
أخذ يفكر بأن ذلك الموقف السلبي، هو الأول الذي ارتكبه؛ وهو من قادهُ لأن يكون هكذا سلبياً وضعيفاً.. وبعد خمسة وعشرون عاما، قرر سامح ـ وهو الآن خبيراً في علم النفس ـ بأن الحل الذي أمامه أحد أمرين: إما ان يسامح، واما ان ينتقم! اما التعايش مع الألم، فهذا شيء لا يطاق!
لكن كيف سيسامح وقد هشّمه ذلك الولد. وأثّر في شخصيته وقراراته الى الابد؟ كيف وهو ما يزال يتذكر تلك الحادثة إلى الآن؟! كيف يسامح وهو ليس في موقع القادر المتمكن؟ الضعيف لا يستطيع ان يسامح، الضعيف ينتقم في سره ألف مرة، ويعلن امام الناس انه قد سامح.لكنه لم يسامح.
وهو الآن لن يُسامح، ولن يترك هذا الجرم يمر مرور الكرام. لن يترك الامر الى يوم الحساب.
وقرر سامح ان ينتقم، وعقد العزم على ذلك …
لكنه لا يتذكر اسم ذلك الولد. يتذكر فقط اسم صاحب المحل، لا يدري كيف ما زال يتذكر اسمه. لكن صاحب المحل كان مستأجرا، ليس مالكاً، وربما يكون قد باع المحل وغادر. ثم انه ربما لن يتعرف على غريمه، حتى لو كان صاحب المحل قد بقي في مكانه ولم يرحل!
واخذ سامح يناقش نفسه : كيف تريد ان تنتقم من رجل بذنب طفل؟ كيف تريد ان تنتقم من طفل أصبح صديقك فيما بعد؟ ربما كان من الأفضل ان تنسى الامر.. ان تسامحه على اية حال.. “ماذا؟ اسامحه! لا.. لا، لم يصبح صديقي ابداً.
كنا بالفعل نلعب الكرة في بعض الأحيان. لكنني كنت طيلة الوقت احمل الندم لعدم الانتقام”، كيف اسامحه؟ لن اسامحه ورب الكعبة!
وأخذ سامح يعد نفسه للسفر الى تلك المدينة. لانه الآن يعيش في مدينة أخرى. بعد يومين سافر، ومباشرة ذهب الى ذلك الشارع الذي كان يسكن فيه، ومر من أمام البيت التي قضى فيها اجمل أيام طفولته. غمرته موجة من الحنين.. وتنهد متحسرا.
في صباه كان مليئا بالحماس، بالامل والالم ايضا، تجاوز كل شيء إلا تلك اللطمة، اليوم سيغلق ذلك الملف إلى الأبد.. لطمة بلطمة..!!
مشى باتجاه ذلك الدكان. عندما وصل وقف أمامه طويلا. ما زال دكان للخضروات والفواكه، كما كان.
تقدم سامح، وارتقى درجات السلم الثلاث.. دخل المحل.. التفت يسارا.. ما زال تصميم الدكان كما كان، لكن الوجوه مختلفة، المحل مزدحم بالزبائن كالعادة، سأل الرجل الذي كان مشغولا بتلبية طلبات الزبائن:
ـ لو سمحت يا اخي أهذا محل عبدالله غالب؟
ـ عبدالله غالب الله يرحمه.. مات من عشر سنوات!
ـ الله يرحمه.. يعني هذا المحل يعود لأولاده.. صحيح؟
ـ نعم
ـ أنت ابنه؟
ـ لا انا عامل.
ـ هل ابنه الكبير موجود؟
ـ من قصدك.. أحمد؟
ـ نعم.. نعم، أحمد.. تذكرت الآن، كنت قد نسيت الاسم!
هنا التفتت اليه الزبائن، هل قال شيئا مهما؟ بينما سأله البائع:
ـ وما الذي ذكرك به؟
ـ لي عنده دين؟
ـ دين؟
وتوقف لبرهة عن عد النقود، ونظر إليه مباشرة!
ـ نعم.. دين!
ـ من المؤكد أنك لم تعد تتذكر شكل أحمد! تتذكر الدين، لكن لا تتذكر الاسم، ولا الشكل! منذ متى هذا الدين؟ منذ كان طفلاً.. أليس كذلك؟
ـ لماذا؟
ـ لأنه لا يعقل ان يكون الدين حديثاً، فأنت لا تتذكر اسمه ولا شكله!
ـ الاسم يحدث أن ينسى الانسان الأسم، لكن شكله محفوظ في ذاكرتي!
قال البائع وهو يبتسم ابتسامة خفيفة:
ـ لا اعتقد ان شكله مازال محفوظا في ذاكرتك. وإلا لما اتيت الى هنا!
ازدادت حيرة سامح من كلام البائع، وكأنه يتكلم بالألغاز. كان يبدو وان البائع يتسلى بإثارة حيرة سامح. رغم انه كان يبدو مشغولا وهو يكلمه، لأنه كان يعد النقود، ويتكلم مع الزبائن، وفي نفس الوقت يتكلم مع سامح . قال له سامح :
ـ لماذا تقول ذلك؟
ـ لان الناس كلها تعرف أحمد عبدالله! الجمهورية كلها تعرف أحمد عبدالله الذيب!
ـ ماذا تقصد؟ تقصد أنّ أحمد عبدالله غالب هو نفسه أحمد عبدالله الذيب؟!
ـ نعم هو بعينه!
صُعق سامح ، فهذا آخر ما كان يتوقعه:
ـ او.. او.. او…معقول؟!
ـ نعم.. لماذا ليس معقول.. هذا الدكان لأبيه، بينما أحمد كان يعمل في محل للمخللات، حتى بدأت الحرب. بعدها انت تعرف القصة كلها!
ـ يا الله!
ـ كم الدين الذي عليه؟
ـ هاه؟
ـ كم المبلغ الذي يدينه أحمد لك؟
ـ المبلغ! أي مبلغ؟ كنت امزح يا رجل!
وخرج سامح من الدكان وهو غارق في ذهوله.. وقرر من فوره أن يسامحه.. على تلك اللطمة.. لوجه الله تعالى. وهو يقول جملة لطالما كررها: يا سامح.. سامح..!
اقرأ ايضاً: